..الحنين وشم على الذاكرة
أكيد أن بعض اللحظات تأخذني من زمن الحاضر وتحلق بي عاليا.. وفي سفر لحظي إلى زمن الذكرى..فأترجل صهوة الخيال وأقف فارسا بثبات على أرض الحنين ..وأعانق زمنا أعترف أنه فر مني إلى غير عودة..هو إحساس متخن بخليط تناقضات حسرة و فرح ..حزن وابتسامة ..شقاء وسعادة ..وما أكثرما تجرفني تلك الرغبة الجامحة في العودة إلى هذه اللحظات ..على الرغم من كوني أعلم أنه غير ممكن واقعا ..لكن الخيال الذي أفرشه وأغطيه بالأمل..يجعلني أعيش لحظات في حضن السعادة..وإن كنت أعتقد أن السعادة هي التي انفلتت ومضت مع عمري وقتها .. لأن السعادة لانمنحها قيمتها إلا عندما يمضي القطار ونكتشف أننا واقفون في شدوه على رصيف الحنين..نحن إلى الماضي إلى الطفولة إلى البراءءة إلى النقاء ..نحتاج لتلك الأحاسيس التي كانت ضحكات بصوت عال في سماء الأحداث غير مبالية.. نحتاج إلى تلك الابتسامات التي تتفتق ورودا..وتتطاير عبيرا وتتراقص فراشات مداعبة روابي الفطرة.. وجداول السعادة..بعيدا كل البعد عن الزيف والتفاهة.. عن النفاق والبداءة ..عن الخداع والندالة.
كل منا يحن لهذا الماضي.. زمن الصبا واليفاعة الخالي من التبعات والأعباء..الخالي من المهام والمخاوف.. كانت أياما دافئة استمتعنا فيها بعمق وسموالعلاقات الانسانية الصادقة الصافية بين الأهل والأحباب بين الأصدقاء والأقرباء.. كل منا عندما يرى من كانوا جزءًا من أيام صباه وشبابه يحس بتلك الرعشة الغير إرادية ..ويشم رائحة قطع الحلوى التي كنا نتقاسمها أمام بوابة المدرسة أوفي ساحة الحي..أتذكر تلك الألقاب التي كنا نطلقها على بعضنا من قبيل الدعابة ..وتحضر أمامي تلك الألعاب وذلك الشغب الصبياني البريء.. لاشك نسعد بكل هذا الشريط الذي يكتسح مخيلتنا في لحظات..إنه الحنين إلى الزمن الجميل.
إحساس بالراحة النفسية يعتريني وأنا أمر بشارع بيتنا القديم .. أقلب أوراق ذاكرتي لاإراديا ….أتذكر وأرى وأبتسم ..وكأني أعيش اللحظة لساعتها..الحنين هو أن أطالع صور من رحلوا ..من غابوا..من ماتوا.. وأسترجع ماولى من الذكريات حزنا وألما..سعادة ونشوة..فقدا وحسرة ..الحنين هو هذا الجرح العميق في ذاكرتي..هو هذا الجرح المستعصي على الشفاء..هو هذا الجرح الخفي الذي أحس بلذة ألمه عندما يصرخ بوجهي في لحظة من اللحظات فأفتقد الزمن وأهب لمداواته ـ وبالحقيقة أداوي ماتبقى من ذاتي ـ وبأدق التفاصيل الصغيرة.. بقرص ابتسامة.. بمحلول عطر..برعاف زهرة ياسمين..وأنا أتأمل في سقف الغرفة..ومعزوفة الفصول الأربعة للموسيقارفيفالدي تملأ المكان وتعوض الفراغات ..وتعوض سيرورة الفصول الداخلية لتمظهرات الحنين.
. ها أنا اليوم أتمنى مخلصاأن يرجع بي الزمن إلى الوراء لأسرق لحظة من تلك اللحظات الجميلة المعلقة كتمائم على غصن دالية.. لكن هيهات..هكذا تطوى صفحات أيامنا.. صفحة صفحة.. وتتساقط أوراق عمرنا من شجرة الوجود ..ورقة ورقة.. ولا يبقى منها سوى تلك الذكريات الجميلة .. العالقة في الأذهان..إن الحنين لايموت بل يكبر ويكبر ..إنه يخترق كل الأزمنة.
إنه النوستالجيا..وأعترف أن الحنين عندما يدخل دائرة أفكاري لا يدخل من البوابة وإنما يتسلل من النافذة الخلفية لذاكرتي ..فيعبث بشاشة أحلامي ويغير محطات رؤاي ..إنه كجرعة منشطة .. تريح دماغي للحظات ..إن إعادة الاستمتاع بهذه اللحظات يسعدني ويشعرني بالتعافي من الضغوطات اليومية..ويخفف علي من وطأة الإكراهات والإلتزامات..و يعطني تلك الشحنة الإيجابية ويدخل مشاعري وعواطفي في حالة رضا وتوهج ملكوتي..نعم.. لربما هناك علاقة خفية ورابط مبهم بين نفسيتي وبين الأماكن التي عشت بها والأشخاص الذين لاقيتهم أو عاشرتهم أو حتى صادفتهم..
لا أنكر أن الحنين ينتشر بجسدي كحمى قاتلة في حنو.. وخبيثة في لطف.. مما يدخلني في حالة هلوسة فكرية كما أفعل الآن.. فبالهلوسة نفرج عن لاوعينا وننزع عنه أصفاد الوعي..وننقذه من أسر ظلمات ردهات الذاكرة العميقة.
الحنين نعمة من الله.