الذات بين العبقرية والجنون
عندما يأتيني الفجروقد انبثق من رحم الظلماء ..نسيما ..عبيرا ..نذيرا.. في خيلاء العظماء..نشوة روح نزلت من أعالي السماء..رذاذا رحمة..نقاء هواء..أرفع يداي وأحضن خيالي..وأتضرع مفرغا دمعي في سخاء.
في ثنايا هذه التأملات الصباحية التي أصبحت من صميم انشغالاتي اليومية ..والتي غالبا ماتكون محشوة بأسئلة.. أخالها صراحة أسئلة مترددة يكتنفها الخجل.. ولأن ذاتي أخلاقيا تفرض علي مراعاة نفسية الآخر.. لدرجة أنها تعطي قيمة ملوكية لمن نحبهم ونتعامل معهم بفعل إنساني فطرة وسليقة..صدقا لامراءً.. ولاتظاهرا.. ولا لباسا لمكر.. ولازينة لخداع..أرى في شخصية بعض الناس نوعا من السلوكيات التي غالبا ما تستفزني إعجابا.. فأقول مع نفسي هذا الإنسان عبقري..أطلق الصفة هكذا..كقذيفة حب..محشوة بالصدق والإيمان والاعتراف بالآخر.. دون معرفة مسبقة بمعايير ولا صفات ثابتة لمفهوم العبقرية اصطلاحا أو تعريفا أكاديميا.
ولطالما كنت أنظر إلى العباقرة على أساس أنهم أشخاص حالفهم الحظ..لأن الخالق وهبهم التميزوالنبوغ والعبقرية ..فهم أناس فوق العادة ..وأحيانا أحس أنهم فوق الطبيعة ..وبالفعل إنهم أشخاص مميزون إلا أنهم منزعجون . لكن واقع الحال مختلف تماما لدرجة الإدهاش التام..فعندما نحاول تقفي سيرة بعض من وصفوا بالعباقرة..نجد أن العبقرية بالنسبة لهم شيء لايحتمل ولايطاق يقول جونثان سويفت وهوشاعر ورجل دين:
(عندما يظهر عبقري حقيقي في العالم فأول علامة تدل عليه هو أن جميع الحمقى يتألبون ضده)..فالعبقري رجل مهدد بالخطر لذلك عليه أن يخفي عبقريته..يقول ديكارت:(الفيلسوف يتقدم مقنعا على مسرح التاريخ) فالكثير من العباقرة في مجالاتهم ماتوا غدرا..مثلا الشاعر المتنبي مات مسموما..ابن سينا مات مسموما..ديكارت مات مسموما..سبينوزا تعرض لطعنة خنجر..جمال الدين الافغاني مات مسموما ..وغيرهم كثير…
لكن المشكل الأساسي عند العباقرة ليس هو الآخر ..وإنما المشكل بداخلهم.. بذواتهم ..إنها معركة داخلية لاتتوقف ..إنها معركة الذات ضد الذات .. وهي أخطر من التهديدات الخارجية.. لأن العدو يصبح منك وفيك وعليك ..فالعبقري رجل مريض بشئ مبهم غامض ..حد التفاهة ..قيمته في وجوده لابعدميته ..حالة مرضية لايمكن تفسيرها..
لكن في نفس الوقت له كل المؤهلات للانتصار على هذا المرض عن طريق الإبداع الخارق.. والخلق المتميز الاستثنائي..وجعل اللاممكن ممكنا..وتحويل المستحيل الى واقع ..والعمل على إنزال الأحلام من فوق السحاب الى ربى الأراضي ..على شكل قصيدة شعرية ..على شكل لوحة فنية ..على شكل نمط روائي..على شكل تنظير فلسفي .. على شكل أنشودة تخترق الحواجز.
العبقري يحس بالسعادة تغمره عندما ينهي أحد أعماله ..ويشعر بالمتعة عندما يفرغ تلك الحمولة من الهموم والأحزان ..مثلا الروائي الفرنسي جوستاف فلوبيرشعر بالسعادة عندما أنهى كتابة رواية (مدام بوفاري)..وغمر الفرح والاطمئئنان الكاتب الفرنسي ستاندال عندما كتب رواية (الأحمر والأسود).. وكذلك الشأن بالنسبة للأديب والروائي نجيب محفوظ عندما كتب ( أولاد حارتنا )..إنهم أبانوا عن عبقرياتهم وقضوا على أمراضهم..ودخلوا التاريخ من باب العبقرية .
كل العباقرة الذين مروا عبر التاريخ كانوا مرضى ولولا ما أبدعوه لتحولوا الى مجانين..
حمدا لله على نعمة الإبداع ..حمدا لله على موهبة الخلق الفني ..شكرللله على هبة فعل الكتابة.
. يقول الشاعر الكبير هاينه: (إن المرض النفسي هو أساس كل إبداع خلاق. عن طريق الإبداع شفيت من قلقي وجنوني،عن طريق الإبداع استرددت صحتي وعافيتي)
إن الجنون الداخلي هو الدافع للإبداع وعلى الأصح مايسمى علميا بالعُصاب النفسي هو من يصنع الفنان ..بمعنى لاعبقرية بدون حالة جنون داخلي..لاعبقرية بدون ألم نفسي.
فالعبقري شخص غير طبيعي، شخص يختلف عن الناس . إنه دائم الاكتئاب .. بحالة قلق مستمرة..رؤاه سوداوية.. يفتقد للاستقرار النفسي.. إنه مسكون بإبداعه حد الجنون..ومانقرأه عن حياة المبدعين لخير دليل على هذا القول من أمثال:امرئ القيس ..والمتنبي ..واحمد شوقي.. و بودلير.. ورامبو.. وفان جوخ.. وموزارت..وهمنغواي.. وبلزاك.. وفلوبير.. ونيتشه.. ودوستوفيسكي وآخرون.
وأخيرا العبقرية تعكس حالة التميز والتفرد والإبهار في إبداع المبدعين بعد خروجهم من حالة الجنون..وبذلك العبقري كما المجنون يقفان على حد سيف واحد ..لأن العبقرية باهضة الثمن.
وثمنها جنون مرحلي وذلك مقبول لأنه يفضي إلى إبداع أو جنون دائم وتلك خسارة كبيرة.
.أسامة الحنشي : 10\09\2022