عندما تسيطر علي تلك الحالة الفكرية التأملية التي تفرض علي إعمال البحث والتحليل فرضا لا اختيارا.. أجدني أتحول إلى إنسان داخل شرنقة منعزلا عن كل شئ.. سوى عن ذاتي هذا الآخرالذي أعرفه ولاأعرفه..على الرغم من كونه يسكنني محملا بهواجسه ومخاوفه ..بطموحاته وآماله.. لحظتها تباغتني بعض الأسئلة والتي لا أزعم أن لي أجوبة لها أو حتى أني قادر على حلها وتسويتها.. ولكن بالنسبة لي فمجرد طرح هذا النوع من الأسئلة هو إحساس جميل يشعرني بأني على قيد الحياة الفكرية..وبأنني لازلت أتنفس هواء الأسئلة المشاكسة التي تنفث عبيرها الفلسفة..ولازلت أستنشق عبق التأملات العميقة التي يرخي ريحها وريحانها بستان الشعر ..وهنا يعاودني السؤال هل هوالشعروالفلسفة أم هي الفلسفة والشعر..؟ أيهما أجدر بالسبق والأولوية؟
السؤال ليس وليد اليوم أو البارحة وإنما هو سؤال متجدر في القدم.. طرح منذ عصور خلت.. لكن لكل عصر أفكاره ومفاهيمه ونظرياته وظرفيته ومتغيراته ..وهذا بالضرورة يضع السؤال في وضعية التصادم الطبيعي تاريخيا ..وفي وضعية الصراع الفكري منطقيا ..وهو مايمكن تسميته بتبادل التأثير والتاثر..عبر المد الزمني .
يقول الفيلسوف (هيدجر) بأن الفلسفة والشعر كجبلين يطلان على واد مشترك والوضع مرتبط بعلى أية قمة جبل تقف؟
إن الشعر يشارك الفلسفة في تقديمه لنا رؤية شمولية كاملة للوجود..مكثفة باللغة الشعرية لأن الشاعر لايعبر بل لايسمح له أن يعبرعن رؤيته بلغة التصورات الفلسفية المجردة بعيدا عن فضاءات الشعروبساتينه الخضراء..وانما عن طريق ملامحها الحسية الملموسة ..حيث يمكن تجسيد الدلالة والمعنى بصياغة ولغة لايمكن تغييرها او استبدالها ..لأن الإيحاءات وموسيقى الصوت تومئ للمعنى..وتجلو المرآة..ليظهر الغامض فينا..طوعا وتجليا.
بمعنى أنني عندما أقف على جبل الشعر فسألاحظ أن الفلسفة لن تفيدني بلغتها التقليدية على رؤية ذلك المشهد البانورامي الممتع كما أراه من قمة جبل الشعر..فاللغة المجردة من التصورات والأحاسيس والإيحاءات لن تمكنني من الإمساك بالتجربة الحياتية بطابعها المحسوس الغامض الذي يدعو الى الحيرة والتناقض..إلى النشوة الفكرية والاستمتاع الوجداني..لذلك نجد بعض الفلاسفة قد جنجوا إلى استعمال اللغة الشعرية في التعبير عن رؤاهم الفلسفية..وهذا يفسر وجود تقارب وتواصل بين الشعر والفلسفة في بعض الحضارات القديمة.. وأعتقد أن روح لغة الشعر تجعل منه الأكثر وضوحا فهي تتضمن الإيحاءات والتلميحات بدل التصريح والإفصاح..وبالتالي فإن العالم نفسه أوسع من حدود اللغة القائمة على المنطق المسلح بالبراهين والأدلة العقلاية ..لأن محاولة فهم عالمنا تفرز مناطق أخرى غامضة ذات طبيعة صوفية وبعد روحي جواني …
وغايتي أن أخلص إلى القول بأن الشعر لايمكن أن يصبح فلسفة ولاالفلسفة يمكن أن تصبح شعرا.. لأن الوجود برمته موضوع بحث للفيلسوف كما هو للشاعر.. وفي قناعتي أن الشاعر يشارك الفيلسوف في مواضيع تأملاته..لكن بلغته الخاصة..وبالمقابل الفيلسوف يلجأ إلى الاقتراب من لغة الشاعربالابتعاد أحياناعن لغة التصورات الفلسفية المجردة..في محاولاته وصف الوجود.
وأخيرا تظل الفلسفة من أهم مجالات الفكر الإنساني لفهم معنى الحياة..بينما يظل الشعر هو الحياة.
ولكل الحق في معرفة على أي جبل يقف..
جبل الشعر أو جبل الفلسفة.
أسامة الحنشي
28\10\2022